وبين الخطيب، في مستهل خطبتي الجمعة،أن مسؤولية الإنسان عن حياته إزاء ربه وإزاء نفسه وإزاء جماعته أمانة في عنقه،لأن الله ميز الإنسان بالوعي والشعور وبحرية الإرادة،موضحا أن هذه المسؤولية تشمل كل جوانب الحياة.
وإذا نظرنا، يضيف الخطيب،إلى العلاقات بين الجماعات،سواء كانت هيئات أو أمم ودول،وهو نوع العلاقات المنضبطة بالعقود والعهود والمواثيق أو ما يسمى اليوم بالإتفاقيات،نرى أن الإسلام كان سباقا في تاريخ البشرية إلى وضع مبادئ سامية في هذا المجال،حيث نص على أنه من الأمانة أن تحترم الأمة،أفرادا وجماعات،عهودها ومواثيقها التي تبرمها مع غيرها وأن تحرص على الوفاء بها لما في ذلك من منافع ومصالح للعباد ومن حل للنزاعات وتسوية للخلافات.
وذكر الخطيب بأن أنبياء الله ورسله كانوا من الموفين بعهودهم والمنفذين لوعودهم،إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر خيانة العهود نافية لكمال الدين وتمام الإيمان،فما عاهد صلى الله عليه وسلم قوما إلا وفى بعهده،فقد عاهد اليهود في المدينة وأقرهم على دينهم وعقيدتهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم شريطة أن لا يغدروا أو يؤازروا عدوا للمسلمين،ذلك لأن الإسلام يعتبر السلم هو الأصل في العلاقات بين الناس على اختلاف أجناسهم وأنواعهم،وأن الحرب ليست إلا علاجا لحالات شاذة لم تنفع معها الحكمة والموعظة الحسنة.
وأكد أنه إذا كان الإسلام يقر ذلك فإنه يبيح للمسلمين أن ينشؤوا،حسب ما تقتضيه مصلحتهم،من العهود والمواثيق بينهم وبين غيرهم،كما يبيح لهم إبرام عهود بقصد التحالف والتعاون على دفع عدو مشترك بشكل يحقق مصلحة المسلمين،بحيث أن معاهدة النبي الكريم مع أهل الكتاب في أول عهده بالمدينة المنورة كانت أول حجر في بناء الدولة الإسلامية وأول علاقة سياسية تقرر حرية التدين والمعتقد وتحافظ على الأمن والسلام،كما عقد صلى الله عليه وسلم،قبل ذلك،معاهدة صلح وهدنة مع قريش في الحديبية وكذا مع نصارى نجران حين دعاهم إلى الإسلام وامتنعوا عن الدخول فيه،فقبلوا الخضوع لحكم الإسلام والعيش في جواره آمنين.
وأوضح الخطيب أن الإسلام حينما يقرر هذه المعاهدات فإنه يشترط في صحتها وإبرامها عدة شروط،منها أن يكون للمسلمين مصلحة معتبرة في هذه المعاهدة تبرر الإقدام عليها وأن تكون بينة الأهداف واضحة المعالم تحدد الإلتزامات والحقوق بشكل واضح لا يقبل التأويل،فإذا أبرمت العهود وفق الشروط المطلوبة وجب الوفاء بها وأصبحت واجبا دينيا يسأل عنه المسلم ويحاسب عليه ويكون الإخلال بها غدرا وخيانة ما لم تظهر الخيانة من الطرف الآخر.
كما تفقد المعاهدة،يقول الخطيب،حرمتها وشرعيتها في حكم الإسلام إذا توقع المسلمون خيانة من الطرف الآخر بأنباء صادقة أو قرائن واضحة أو أن المعاهدة كانت قد وضعت في ظروف خاصة،ثم تغيرت تلك الظروف وصار العمل بتلك المعاهدة يوقع الأمة في مفاسد أعظم مما في الوفاء بها من خير وصلاح،مبرزا أن الإسلام،بذلك،يكون قد سبق كل الأمم بتشريعاتها ومعاهداتها في تميزه عنها بمعاهداته العظيمة وأن هذا السبق لم يكن نظريا وإنما كان واقعا عمليا يشهد به التاريخ لهذا الدين العظيم الذي تفرد بعدله ورحمته وسماحته على مر العصور.
وأوضح الخطيب أن العهود والمواثيق في الإسلام لا تقتصر على الدول والجماعات من الناس بل تشمل حتى الأفراد،بحيث أمر الله تعالى نبيه بأن يقبل طلب أي شخص من المشركين يريد الأمان عنده بأن يؤمنه حتى يبلغ مأمنه،فالمستأمن لا يؤذى بل يجب على المسلمين حمايته في نفسه وماله وعرضه مادام في دار الإسلام.
وأشار إلى أن الإسلام أمن كذلك الرسل المبعوثين من طرف الأعداء ونهى عن قتلهم وأمر بتوفير الحماية لهم لضرورة وجود رسل في عقد الصلح أو التحالف لمنع الحروب وسفك الدماء،وبذلك تكون الحضارة الإسلامية قد سبقت الدول الحديثة في وضع القوانين الإنسانية الحضارية للرسل (أي المبعوثين) واحترام المعاهدات والمواثيق التي تبرم بين الأفراد والجماعات والدول لحفظ الحقوق وضمان السلام بين الأنام.
وابتهل الخطيب،في الختام،إلى الله تعالى بأن ينصر أمير المؤمنين حامي حمى الملة والدين،صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصرا عزيزا يعز به الدين ويجمع به كلمة المسلمين وبأن يقر عينه بولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير مولاي الحسن ويشد عضد جلالته بشقيقه صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد وبسائر أفراد الأسرة الملكية الشريفة.
كما تضرع إلى العلي القدير بأن يشمل بواسع عفوه وجميل فضله الملكين المجاهدين جلالة المغفور لهما محمد الخامس والحسن الثاني ويطيب ثراهما ويسكنهما فسيح جناته.