وقد حظيت الجهوية بمفهومها العريض باهتمام المشرع المغربي على مدى العقود الماضية، حيث اعتمدت لأول مرة في ظهير 16 يونيو 1971 الذي نص على إحداث الجهات الاقتصادية، ثم دستور 1992 الذي أضاف الجهة إلى مكونات الجماعات المحلية، وبعده دستور 1996 الذي أحدث المجالس الجهوية للحسابات التي أسندت إليها مهمة مراقبة حسابات الجماعات المحلية وهيئاتها وكيفية تدبيرها لشؤونها.
بيد أن مفهوم الجهوية بالمغرب دخل عهدا جديدا مع إقرار دستور 2011 الذي رسخ الجهوية المتقدمة كأحد ثوابت الأمة باعتباره "التنظيم الترابي للمملكة تنظيما لامركزيا يقوم على الجهوية المتقدمة"، وتضمنه لمقتضيات متعلقة بالتدبير الجهوي والحكامة الترابية والتنمية الجهوية والمندمجة وتعزيز اللاتمركز الإداري.
وقد شكل تحقيق الجهوية المتقدمة وترسيخها ورشا استراتيجيا ما فتئ جلالة الملك محمد السادس يؤكد على ضرورة المضي في تفعيله لما يحمله من حلول وإجابات للمطالب الاجتماعية والتنموية بمختلف جهات المملكة.
وفي هذا السياق، يعتبر الخطاب الملكي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة بتاريخ 6 نونبر 2008 مرجعية أساسية للجهوية المتقدمة، حيث أعلن جلالته فتح صفحة جدیدة في نھج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي يقودها جلالته من خلال إطلاق مسار جھویة متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتھا جھة الصحراء المغربیة.
كما أعاد جلالة الملك في خطاب 3 يناير 2010 بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية التأكيد على أهمية الجهوية الموسعة باعتبارها "ليست مجرد إجراء تقني أو إداري، بل توجها حاسما لتطوير وتحديث هياكل الدولة، والنهوض بالتنمية المندمجة".
وقد أصدرت اللجنة الاستشارية للجهوية توصيات دعت فيها إلى تبني مجموعة من المقتضيات التشريعية والتنظيمية، التي من شأنها الانتقال بالجهوية إلى جهوية متقدمة ذات جوهر ديمقراطي وتنموي، حيث شكل تقريرها أرضية صلبة لإدراج المقتضيات المذكورة ضمن دستور 2011 .
ومن جملة ما نصت عليه توصيات اللجنة تخويل الجهة المكانة الجديرة بها في الدستور ضمن الجماعات الترابية، في نطاق وحدة الدولة ومتطلبات التوازن والتضامن الوطني مع الجهات، وإرساء معالم جهوية مغربية قائمة على حكامة جيدة تكفل توزيعا منصفا وجديدا للاختصاصات والإمكانات بين المركز والجهات، سعيا وراء الحد من الفوارق بين مختلف الجهات.
كما أعطى جلالة الملك في خطاب 29 يوليوز 2018، بمناسبة عيد العرش، تعليماته بإصدار ميثاق اللاتمركز الإداري الذي تتيح مقتضياته للمسؤولين المحليين، اتخاذ القرارات، وتنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، في انسجام وتكامل مع الجهوية المتقدمة.
ويعتبر هذا الميثاق مدخلا أساسيا لمواكبة الدينامية الجديدة التي يشهدها التنظيم الترابي اللامركزي للمملكة القائم على الجهوية، ولبنة أساسية في بناء الجهوية المتقدمة وتوفير الشروط اللازمة لتنفيذ السياسات العمومية للدولة على الصعيد الترابي، وفق مقاربة مندمجة ومتكاملة لتحقيق تنمية مستدامة، تمثل الجهة الفضاء الترابي الملائم لبلورتها على أرض الواقع.
وشرعت الحكومة في العمل على تنزيل هذا الميثاق بشكل تدريجي، وفق خارطة طريق تعتمد مبدأ التدرج في تطبيق وتفعيل مضامينه داخل أجل زمني لا يتجاوز ثلاث سنوات (2020-2022)، مع إرساء آليات عملية لضمان فعالية ونجاعة هذا التنزيل، بما يحقق توزيعا متوازنا للاختصاصات والوسائل بين الإدارات المركزية للدولة ومصالحها اللاممركزة.
وعلى الرغم من التقدم الذي تم إحرازه في مسار تنزيل مقتضيات الجهوية المتقدمة على المستويات التشريعية والقانونية والمؤسساتية، إلا أنه لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله لبلوغ الغاية المرجوة من هذا الورش الوطني الاستراتيجي، والمتمثلة في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتحقيق الحكامة الترابية، من خلال تحلي الفاعلين السياسيين المركزيين والترابيين بالإرادة الحقيقية لتفعيل هذا الورش الطموح.
وتشكل المناظرة الوطنية حول الجهوية الموسعة التي ستحتضنها مدينة أكادير يومي 20 و21 دجنبر الجاري مناسبة لتقاسم عناصر التشخيص المتعلق بالحصيلة الإجمالية لتنزيل الجهوية المتقدمة، وتحديد المداخل الأساسية لتحقيق نقلة نوعية في مسلسل تنزيلها، وتسليط الضوء على الإنجازات والتحديات التي تواجه الجهوية المتقدمة، وتبادل الممارسات الجيدة والتجارب المبتكرة.
وستعرف المناظرة مشاركة حوالي 1400 شخص، ضمنهم منتخبون وممثلو قطاعات وزارية وممثلو مؤسسات دستورية ومؤسسات عمومية وجامعيون وخبراء وطنيون ودوليون وفعاليات المجتمع المدني، لاسيما ممثلو الهيئات الاستشارية المحدثة لدى مجالس الجهات.