وفي المدن، لم يكن الوضع أقل خطورة حيث لم تتمكن التدابير التي اتخذتها السلطات من الحيلولة دون تفشي العدوى لمدة طويلة"، كان هذا مقتطفا من رواية "المجاعة الكبرى" للكاتب المغربي سفيان المرسني، الذي تطرق فيها إلى الأيام العصيبة التي عاشها المغرب في أربعينات القرن الماضي عندما عانى من الجفاف ونال نصيبه من المجاعة والأوبئة.
مناسبة التذكير بالمشاهد التي حكاها المرسني في روايته هو ما يشهده العالم منذ مطلع السنة الجارية بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، (كوفيد-19) التي أرخت بظلالها على البشرية وانتشرت عبر الحدود والقارات كالنار في الهشيم، وجعلت ردود فعل البشر أمام هذا العدو الخفي تكشف بأن الجوائح والحروب أو أية آفة أخرى، توقظ في الإنسان غرائزه الأكثر بدائية، حيث بدا واضحا كيف اجتاح الهلع الذي سببته هذه الجائحة نفوس البشر، وجعلهم يتهافتون على المواد الغذائية مثل ذئاب جائعة.
وبالفعل، فقد أعادنا فيروس كورونا المستجد، وكل المخاوف المرتبطة به، إلى الوضع الذي شهدته تلك الحقبة الصعبة التي اعتقدنا، خطأ، أنها قد ولت إلى الأبد. وكما يقول الكاتب في روايته، فإن الخوف الطبيعي من الموت جوعا يدفع الناس إلى ردود فعل مماثلة، مدفوعين في ذلك بغريزة البقاء، بغض النظر عن الزمان والمكان.
وفي الواقع الأمر، فإنه، وبمجرد أن تلوح أزمة مماثلة في الأفق، يصبح لدى الإنسان تخوف واحد فقط، هو الخوف من الموت جوعا، ويغدو هاجس واحدا هو توفير مخزون من الطعام يمكنه من مواجهة النقص في المواد الغذائية لأطول فترة ممكنة.
وفي هذا الإطار تبرز مشاهد الطوابير الطويلة أمام المتاجر والأسواق التجارية الكبرى لتحقيق هذه الغاية بما يحيل مباشرة على ما وقع في أربعينيات القرن الماضي عندما كان المغاربة يضطرون للانتظار، لأيام كاملة أحيانا، حتى يحين دورهم للاستفادة من كميات الطعام الضئيلة المخصصة لهم من قبل سلطات الحماية.
وبالإضافة إلى الأزمة الصحية وانتشار الأمراض المعدية، فقد كان بعض التجار عديمي الضمير يستغلون ظرفية الخوف من نفاد المواد الغذائية، ليرفعوا الأسعار ويراكموا الثروة على حساب مواطنيهم. ألا يقولون إن مصائب قوم عند قوم فوائد؟.
وإلى جانب "المجاعة الكبرى"، حفلت بيبليوغرافيا الأدب بالعديد من الروايات التي لجأ كتابها إلى توظيف موضوع الجوائح لتسليط الضوء على ما يمكن أن يتحول له المجتمع عندما تحل به مأساة من هذا النوع والحجم وتسلبه حرياته وقيمه الأساسية وتشكل تهديدا واضحا لحياة كل فرد من أفراده.
وبذلك، أصبحت لكل مأساة روايتها الرمزية. فرواية "الطاعون" للفرنسي ألبير كامو تحكي عن هذا الوباء الذي ضرب مدينة وهران "في تاريخ غير محدد"، حسب ما ورد في صفحتها الأولى.
ويقول الروائي إنه "في غضون أيام قليلة، ارتفع عدد القتلى وسرعان ما بدا واضحا لأولئك الذين يهتمون بهذا المرض الغريب أنه جائحة حقيقية"، مضيفا أن سكان المدينة الجزائرية وجدوا أنفسهم "أسرى" للطاعون.
ويتابع كامو بالقول "كما هو الحال بالنسبة لجميع أمراض هذا العالم، فإن هذا الشر الذي يفتك بالساكنة له جانب مشرق نوعا ما، حيث إنه يفتح أعيننا ويجعلنا نفكر حتى نلقي نظرة جديدة على الناس والأشياء عند نهاية المحنة".
وتغيير الطريقة التي ننظر بها إلى العالم، هو درس كوني وخالد تلقنه الجوائح والأوبئة للبشرية، سواء كان اسمها "الطاعون" أو "كورونا"!
ومن بين الروايات التي اهتمت بموضوع الجوائح أيضا، هناك رواية "الحجر الصحي" للكاتب الفرنسي جان ماري غوستاف لو كليزيو التي تصف نفسية ركاب باخرة تم إنزالهم في جزيرة وإخضاعهم للحجر الصحي في مواجهة مرض الجدري، وكذا رواية ''الحب في زمن الكوليرا" للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الحائز على جائزة نوبل للآداب، الذي لجأ للمرض كخلفية لوصف الشعور بالحب بكل عيوبه، ولكن أيضا في جماله وقوته التي تنتصر على الوباء.
وتثير هذه الروايات عن الجائحات، التي تنتمي إلى عصور وأماكن وثقافات مختلفة، أسئلة وجودية تتعلق بالطبيعة البشرية المنقسمة بين القلق والمخاوف، والفشل والوحدة، واليأس والأمل.
كما أن التحليل النفسي العميق لموقف الإنسان من المرض والموت يلامس القارئ في قرارة نفسه ويزعزع قناعاته ويضعه أمام أسئلة ميتافيزيقية مستمرة.
فمن خلال تيمة الجائحة، تمكن الكتاب المعاصرون من رصد واقع البشر وتشريح الشرط الإنساني والكفاح المتواصل الذي للإنسان المدعو إلى القيام بخيارات وجودية بينما يظل تحت رحمة حتميات تتجاوزه، وكل ذلك بلغة أدبية راقية بالغة عابرة للعصور وللحدود.